ثانوية قره قوش ومكتبتها
ثانوية قره قوش، صرح ثقافي وتربوي وتعليمي يفتخر به كل أبناء البلدة والبلدات المجاورة لما أنجبه من كوادر في مختلف التخصصات نشروا معارفهم وعلمهم وطيبتهم على مساحة هذا الوطن الجميل. هذه المدرسة فتحت رسمياً في 6/10/1959 بعد أن ازداد عدد الطلبة الذين يواصلون مشوارهم العلمي بعد الابتدائية في مدارس الموصل وبغداد. وكان هذا العمل يرهقهم، مصاريف لا طاقة لأغلبهم في تحملها، حتى بلغ مجموع الدارسين ما ينيف على مائة طالب يكلف كل واحد منهم أهله ما لا يقل عن خمسين ديناراً في سنته الدراسية.
وقبل هذا التاريخ وفي 20/10/1947 قدم أبناء قره قوش، برطله، كرمليس، بعشيقه وبحزاني، طلباً مشتركاً إلى مديرية المعارف يسترحمون فيه فتح مدرسة متوسطة في إحدى القرى المذكورة يجتمع فيها شمل أبنائهم. ومنذ عام 1952 وحتى 1958 أصبح أبناء قره قوش يقدمون طلباتهم سنوياً إلى وزارة المعارف دون نتيجة حتى وافقت الوزارة بعد ثورة تموز 1958 على بناء متوسطة في بعشيقة. عند ذاك لم يبق أمام أبناء البلدة إلاّ أن يعتمدوا على نفسهم في بناء المدرسة. وصرف المبلغ الذي يصرفون على تعليم ابنائهم في الموصل لسنة واحدة لبناء مدرسة لهم.
باشروا بناء المدرسة على أرض تبرع بها الخوري أفرام عبدال، فشّيدوا بنايه بثمان غرف ومرافقها الخدمية عن طريق التبرعات والعمل الشعبي وقد أهديت البناية إلى وزارة المعارف بعد إكمالها ووافقت على فتح “متوسطه قره قوش
إذن، مكتبة ثانوية قره قوش تأسست مع تأسيس المدرسة ولكنها كانت بسيطة بكتب محدودة لا تزيد عن خزانه واحده مركونة في غرفة المدرسين
وفي عام 1970 واستلام الأستاذ معد الجبوري مهمة الإشراف على المكتبة أصبح لها شأن أخر، حيث نقلت المكتبة إلى جناح خاص في قاعة واسعة مبنية حديثاً
فجهزت المكتبة بخزانات حديثه للكتب وكراسي ومناضد للمطالعة وأضيفت إليها كتب بمختلف العناوين ومجلات رصينة ومختارة. واصبح من الضروي رفد المكتبة بكتب، وبما انه لا يوجد مخصصات من التربية لهكذا مجال فكان لا بد من التحرك لجمع الكتب من خلال عدة مصار وهي: الهيئة التدريسية، الطلبة، تبرعات الاشخاص. فقد تبرع مدرسو الثانوية ببعض ما لديهم من كتب ليسوا بحاجة اليها وكذلك فعل الطلبة , وكان هناك تقليد اتبعه مدرسوا اللغة العربية في ان تبرع كل طالب بمبلغ بسيط شهريا يستقطعه من مصروفه الشخصي لا يتجاوز عشرة فلوس ( خلال فترة 1968 _ 1972 ) والمبلغ الذي يجمع شهريا يكون بحدود من 500 فلس الى دينار واحد , وهذا المبلغ يكفي لشراء ثلاث كتب جيدة , او كتاب واحد للكتب الموسوعات او القواميس , هذه الكتب يتداولها الطلبة فيما بينهم لمدة شهر كامل , وبعدها تضاف الى المكتبة , هذه العملية كانت تضاف للمكتبة شهريا بحدود خمسة الى سبعة كتب , وهكذا اكتملت المكتبة خلال فترة عام دراسي , بعدها تم تشكيل لجنة لتصنيف الكتب الى عناوين لكي تسهل عميلة فتح سجلات الموجودات وسجلات الاستعارة
وحول مكتبة ثانوية قره قوش يقول الاستاذ معد الجبوي في مقال له كان بمثالة مقدمة لكتابي (اسماء في ذاكرة المدينة – هيثم بردى) وهو عبارة عن حوار مطول أجريته مع القاص بردى، وقد نشرت المقدمة في جريدة الزمان الدولية بتاريخ 28 ايلول 2012 بعنوان ” قره قوش في الذاكرة – من الغاطس البعيد الى الابداع الجديد ” يقول فيه:
في عام 1970 افتُتِحَ أول مرة في العراق الصف السادس الإعدادي، فطلبت من إدارة المدرسة وزملائي مدرسي العربية أن أحصر حصص تدريسي للغة العربية في السادس والخامس، الأدبي والعلمي. وأن أشرف على المكتبة، وهذا ما كان
وفضلا عن اعتمادي التدريس بأحدث الطرق وأكثرها تشويقا، كنت أهدر أمام طلابي بمئات القصائد مما أحفظ، متوسعا في دروس الأدب إلى أقصى ما يشد الطلاب ذكورا وإناثا، مع إيلاء دروس الإنشاء اهتماما خاصا، وتشجيع الطلبة على الخلق والابتكار في الكتابة
وبعد عامين حين تقرر تخفيض حصص المشرف على المكتبة إلى النصف، حصرتُ حصصي في اللغة العربية في صَفَّي السادس العلمي والأدبي، فرفدتُ المكتبة بعشرات الكتب واتخذت منها مقرا للالتقاء بالطلاب الموهوبين سيما وأن الدوام في الثانوية آنذاك كان صباحا ومساء وكنت لا أغادر المدرسة إلى الموصل يوميا إلا بعد انتهاء الدوام فكان لديَّ متسع من الوقت لإنجاز ما أريد مع الطلاب.
في السنوات تلك كنت أقيم علاقات صداقة حميمة مع الموهوبين وأدفعهم إلى كتابة الشعر والقصة القصيرة وكانت لي لوحة في حديقة المدرسة أدون فيها صباح كل يوم كلمةً ما تثير التساؤل عادة، وأصدر نشرة جدارية متحركة متجددة تضم ضمن ما تضم بدايات الموهوبين في الكتابة حتى تطور الأمر إلى إصدار مجلة بعنوان الكلمة بعدة نسخ يحررونها بأنفسهم ويتداولونها فيما بينهم. وكان قد صدر لي عام 1971 ديواني الشعري الأول اعترافات المتهم الغائب فأهديت العديد من نسخه إليهم فكان له كما أتصور فعله وتأثيره والانعطاف بمحاولاتهم الأدبية إلى فضاء الخلق والتجديد
وقد شكلت لجنه لإدارة شؤون الاستعارة والمحاسبة وهم كل من: صباح ججي عولو، سعدالله بهنام قاشا، إبراهيم يوسف حنو، سمير بهنام جحولا. وقبل هذه اللجنة تولى مسؤولية المكتبة كل من: نائل فرج (بعشيقه) ويوسف سعيد القس الياس، وقد فتحت سجلات خاصة للاستعارة للطلاب حيث خصص لكل طالب صفحة في السجل، وسجل أخر لاستعارة المدرسين وكان لكل مدرس صفحته أيضاً
أما العناوين التي حملتها كتب المكتبة فكانت كالآتي:
- الكتب الأدبية وتبدأ من 1- 100
- الكتب التاريخية تبدأ من 1- 200
- الكتب الجغرافية وتبدأ من 1- 300
- الكتب الاجتماعية، النفسية، السياسية، التربوية تبدأ من 1- 400
- الكتب الدينية تبدأ من 1- 500
- الكتب العلمية تبدأ من 1- 600
- الكتب الانكليزية تبدأ من 1- 700
- الكتب الرياضية تبدأ من 1- 800
- الكتب الفنية تبدأ من 1- 900
- المجلات تبدأ من 1- 1000
وقد بلغ عدد كتب المكتبة في عام (1972) “1157” كتاباً عدا المجلات
وقد كان لهذه المكتبة الدور الكبير في رفد أبناء البلدة بمختلف العلوم حيث كانت المتنفس الثقافي الرصين في المنطقة قبل فتح “مكتبه الحمدانية العامة” في منتصف السبعينات وهي مكتبة رسميه تابعة لوزارة الثقافة
ومن هذه المكتبة صدرت (مجلة الكلمة) وهي مجلة تكتب باليد بنسخة واحدة وقد صدر منها خمسة اعداد، فصدر العدد الأول في آذار عام 1972. وكانت بقياس (18×24) سم. عدد صفحاتها (24) صفحة. وتعد أول مجلة تصدر في قره قوش لا بل في سهل نينوى متكاملة من حيث الإعداد والإخراج والمضمون ولها إدارة صحفية متكاملة. حيث جاء في ترويستها في الغلاف إنها “مجلة نصف شهرية يصدرها طلبة ثانوية قره قوش
أشرف عليها الاستاذ معد الجبوري وراس تحريرها الطالب صباح ججي عولو أشرف عليها أدبياً وفنياً الطالب نمرود قاشا والطالب بهنام عطاالله، أما الإشراف الرياضي فكان للطالبين نعيم موسى والمرحوم يوسف سعيد. احتوت هذه المجلة نتاجات الطلبة الأدبية والثقافية والفنية والعلمية، تتصدرها لوحات فنية إلى جانب كلمة مدير الثانوية الأستاذ سالم بحو ككي. تنوعت محتوياتها بين القصيدة الشعرية والقصة القصيرة والأخبار الأدبية والرياضية والعلمية
ويقول الاستاذ الجبوري في مكان اخر من المقال :
كنت حين يَعرض عليَّ أحدهم محاولاته في الكتابة أعيدها إليه مرفقة برسالة نقدية بخط يدي تحفزه على الاستمرار والتجاوز. وكنت أنقِّح بعض النصوص، وآخذها بيدي إلى جريدة الرسالة التي كانت تصدر في الموصل آنذاك فأنشرها، مثل نصوص نمرود قاشا، وبهنام عطا لله. كما نشرت في مجلة المدرسة الكلمة التي أشرفت على إصدارها لبعض الطلاب، أذكر منهم صباح ججي، الويس فرنسيس، بكر فاروق. ثم أقمت مهرجانات للشعر داخل المدرسة، نالت إعجاب المدرسين والطلبة ووزعنا فيها الجوائز على المشاركين من الطلاب، فكانت بحق نقطة اندفاع لهم ومواصلة
ومن خلال هذه المكتبة وهذه الثانوية كان قافلة من الادباء والشعراء استطاعوا ان يثبتوا حضوره على ساحة الوطن وقسم تجاوزه الى الوطن الاكبر. وعنهم بقول الشاعر معد الجبوري:
ومن الأصوات التي ظلت تواصل حتى اليوم، وبات لها شأن في ساحة الحضور الشعري، هي أصوات المبدعين شاكر سيفو، زهير بهنام بردى، الدكتور بهنام عطا الله، نمرود قاشا وعمل الأخيران فيما بعد في الإعلام والصحافة وترأس كل منهما تحرير صحيفة أو مجلة تصدر داخل قره قوش، أما في القصة، فقد واصل صوت مبدع هو هيثم بهنام بردى. من جانب آخر قمت بتشكيل فرقة للإنشاد والغناء أدربها في المكتبة وعنها انبثقت فرقة مسرحية ألَّفتُ لها بعض النصوص وأخرجتُها بعد أن رتبنا خشبة للعرض المسرحي من طاولات كرة المنضدة وربطنا بها الستائر وأقمنا عليها الديكورات، ووقف إلى جانبي في المسرح آنذاك مدرس التربية الرياضية الأستاذ زينل خالد فألَّفَ ودرَّب وأخرج، وساندني مدرس التربية الفنية فنان قره قوش الكبير الأستاذ سامي لالو ثم مدرس الفنية الأستاذ الفنان شابا عطا الله، في كل مستلزمات الديكور والستائر والمجسمات والمكياج. ولأنني كنت أرى آنذاك، أن أفضل من يمكن أن توجهه إلى التمثيل هو الرياضي لمرونة جسده وحركته، فقد توجهت إلى لاعبي الرياضة في المدرسة ودفعت عددا منهم إلى ميدان المسرح)
وسأنقل نصا اخر للجبوري يتذكر أصدقائه في قر قوش:
وممن كانوا قريبين مني من الطلاب ولهم حضور وشأن في النشاط الأدبي والفني، طلاب أذكر منهم بهنام عجم، الياس عزيز، سمير بهنان مدرس التربية الفنية حاليا.. ومن الأذكياء الأوفياء شيت يوسف، وهو حاليا دكتور مقيم في كندا، يحرص على اللقاء بي كلما زار قرة قوش في منزل أخيه الأستاذ ابراهيم يوسف حنو الذي ما أزال أزوره في قره قوش بين فترة وأخرى وهو أحد أعز أصدقائي الأوفياء النبلاء مع أخويه يعقوب وبهنام. فضلا عن العديد من رجال البلدة الطيبين. وممن ظلت صلتي بهم متواصلة من شعراء قرة قوش الذين لم يكونوا من طلابي، مثل جبو بهنام بابا، وعد الله إيليا. ولن أنسى أبدا ذلك اليوم الذي احتفى بي فيه أدباء قره قوش، بإشراف مركز السريان للثقافة والفنون
هذا الصرح الثقافي الكبيرـ مكتبة ثانوية قره قوش، انتقل مع كادره التعليمي وطلبته من بنايته الأصلية التي سلمت إلى “إعدادية صناعة الحمدانية” الى بنايه أخرى حديثه حملت اسم “إعدادية قره قوش
في 9/ نيسان/2003 دخلت القوات الأمريكية بغداد ثم بقية مدن الوطن
هذا الصرح نهب ومن ثم أحرق بحدود الساعة الواحدة والنصف ظهر يوم الخميس (10 نيسان 2003) إضافة إلى مؤسسات أخرى غيره بعد دخول مجاميع مسلحة قادمة من جهة كرمليس (دخلت بسلام من دون أيه مقاومة، تتقدمها جموع من أبناء البلدة المختلفة عند مدخل البلدة)” كما وردفي ” مجلة العائلة – العدد 36 حزيران 2003. ورغم الرسالة التي أرسلها الآباء الكهنة باسم أبناء البلدة للقوات الداخلة بضبط النفس والتصرف بعقلانية تجاه أي عمل وعدم الاحتكاك مع أبناء المدينة، خاصة وان هناك شبه اتفاق بعدم إطلاق رصاصة واحدة.
إلاّ أن القليل من أبناء البلدة خرقوا هذا الاتفاق وسجلت حالات تجاوز وتخريب لعدد من مؤسسات الدولة تحت غطاء عدم وجود سلطه وكانت ثانوية قره قوش ومكتبها الضحية البريئة التي مزقتها الحرائق صارخة: كيف شعب يتطلع إلى الحرية والتقدم وهو لا يهدم إلاّ مهود التقدم.