السبت, مايو 18, 2024
الرئيسيةأخبار الاذاعةكان يا ما كان في قديم الزمان … كان هناك نينوى
أخبار الاذاعة

كان يا ما كان في قديم الزمان … كان هناك نينوى

 الموروث الشعبي الشفاهي والمشتركات المنسية بين أبناء المدينة

كتابة : داليا قتيبة

اكتب هذه المقالة، مدفوعة بهاجس شخصي، هاجس قديم يعود الى ايام الطفولة المبكرة.. اسأل نفسي. أين ذهبت القصص التي نعرفها كلنا -نحن ابناء نينوى- كيف يمكن لمجموعة الناس الذين تشاركوا قصة واحدة وطفولة متشابهة أن ينظروا في وجوه بعضهم البعض فلا يعرف أحدهم الآخر؟ في أي مرحلة بالضبط نسينا القصة المشتركة؟

عندما كنت في السابعة كنت اتذمر عندما تقول لي جدتي (صفطي الصندليي مالتي دحكيلكي قصة) فيما معناه كانت تطلب مني أن أرتب الملابس والشراشف في دولابها الاثري القديم في مقابل أنها ستطرب سمعي بالقصص التي تحفظها وتعيدها بشكل غنائي سلس مستمر بينما تنتقل من قصة لأخرى ومن أغنية لأخرى حتى انتهي من عملية ترتيب دولابها. 

كانت تستخدم القصص بالطريقة التي تجعل الصغار العنيدين ينفذون ما تريده تحت مفعول سحر القصص فعندما تريدنا ان نرتب أو ننظف كانت تحكي عن المطلقات السبعة وفي كل مرة كنا نحصيهم معها ولا مرة كانوا سبعة فقط! في احدى المرات كان هناك ثلاث عشرة مطلقة وفي أخرى ثمانية كان عددهن المتعارف عليه هو سبعة لكن العدد الحقيقي مرن وقد يستمر بالتمدد حتى ننتهي من العمل الذي كلفنا به، وعندما كنا نضجر ونمل من عدم وجود ما نفعله كانت تجمعنا حولها لتغني معنا اغنية (لا لا ا بالتركي) التي تقول كلماتها:

(لا لا لا لا بالتركي.. محمد باشا يقتلكي.. يقتلكي بغاس القلعة.. اخوتكي ستي سبعة.. واحد عاش واحد مات.. واحد شيال الاحمال)

كانت تجمعنا حولها نحن الاخوة وابناء الخال والخالة.. وأبناء العم و العمة، وتحكي لنا حكايات على ضوء “اللمبة” حكايات عن (محمد الكسلان والتاجر البخيل) وعن (بنت السلطان والمطلقات السبعة) وكانت تغني الأغاني التي نطرب لسماعها ونرددها معها.. جدتي كانت “حكّاءة” ومنها أحببت القصص والأرض.

وربما أكون قد نسيت العديد من الأسطر، التفاصيل، الأساطير، الشخصيات والنهايات لهذه الحكايات الغنية.

لذلك ومنذ وقت طويل تأكلني فكرة التدوين فكرة القواسم المشتركة والذاكرة الجمعية التي أسستها القصص، نقلتها الجدات فكانت اللبنة الأولى في تشكيل أجيال تليها أجيال حتى وصلتنا.. نحن جيل المرحلة الانتقالية ثم بدأت بالاندثار والاضمحلال… لقد اغرقتنا الحرب بقصص اخرى – قصص غير مشتركة اطلاقا – قصص مآسي كل مكون على حدا.. قصص ازمة الثقة والأمان بين المكونات، وكذلك اغرقتنا أساليب الاتصال الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي التي حشرت الذاكرة في مستطيل ملون تنطفئ عندما تنتهي البطارية…فيما لا يزال صوت (لا لا ا بالتركي) يعيد نفسه بصوت خفيض في خلفية المشهد المعبأ بالأحداث والفوضى.

لقد سحرتني تلك الحكايات بأسلوبها الفني في التعبير ومصطلحاتها المختارة بعناية ودقة، والأهم طريقتها في التعبير عن الحياة والأفكار وكيف استطاعت تلك الأجيال من خلال اللغة البسيطة والمخيلة المستقاة من الواقع تجميع هذا الكم من المعرفة والخبرات والحكمة التي توجه في بعض الأحيان وتحذر في أخرى. وكيف اتفق ان تكون هذه المخيلة الجمعية قاسما مشتركا رغم الاختلافات الفكرية والفيزيائية. 

 كان يا ما كان في قديم الزمان … كان هناك نينوى، وكانت مليئة بالناس من مختلف الثقافات والقوميات والأديان، وكانوا يختلفون في العادات والتقاليد، في الأزياء والطقوس واللسان… ويشتركون في الأرض والنهر والمحاصيل الزراعية.. والقصص.

تزخر محافظة نينوى التي تقع في شمال العراق بتنوع بشري وثقافي وديني لتعدد الأطياف والمكونات الدينية والقوميات التي تشكل سكانها وهذا ما جعلها تتميز بثراء تاريخي وحضاري جعلها واحدة من أكثر المحافظات تميزا بموروثها الشفاهي من القصص والحكايات وكذلك الأغاني والأمثال الشعبية. وتعد مدينة الموصل مركز الفئة الأكبر من سكان المحافظة في الماضي ففيها مخزون قصصي يمتد إلى عصور قديمة جدا ولكون الموصل تتميز بلهجتها المختلفة عن بقية المدن العراقية ما جعل موروثها ذو طابع مختلف ومتفرد.

يشتمل التراث الشعبي للمجتمعات على القصص والأساطير والأشعار والألعاب والأغاني والأمثال الشعبية والاحتفالات والأعياد والرقص والفنون والحرف. فكل تلك العناصر هي النتاج الثقافي للمجتمع، غير أن المورث الشعبي لنينوى يكشف تشكل ذاكرة جمعية، فكل المكونات ساهمت في خلق القصة، وكل المكونات أخذت عناصرا منها.. حتى أصبحت القصة التي تسردها جدة كثيرة الكلام على عتبة باب منزل موصلي عربي هي ذاتها القصة التي يحكيها مزارع مسيحي لأحفاده المتجمهرين تحت شجرة في الحمدانية، وهي ذاتها التي ينام الأطفال المشاغبون على وقع اهازيجها في سنجار..

ورغم انه هذه القصص قد عدت “تخريف عجائز” الا ماتزال محتفظة بحيويتها عبر آلاف السنين، بل انها اثبتت نفسها كشاهد بدائي على حكمة عميقة وإدراك خفي لجوهر الحياة. كما احتلت مكانها كملكية فكرية مشتركة ومرنة ومتغيرة لأنها ملك للشعب ونتاج قوة الشاعرية وبقايا معتقداته القديمة.

ويمكننا القول بأن هناك العديد من أصناف القصص في الموروث الشفاهي الشعبي _كما يقول الخبراء والباحثين_؛ قد تختلف في طابعها وبنائها السردي ولكن تتشابه في جوهرها وغاياتها فبعض القصص تميز ابطالها كأساطير تمثل العقيدة التي يؤمن بها المجتمع الذي ولدت فيه، مثل بحث جلجامش عن عشبة الخلود. وهناك حكايات كان السحر أهم أبطالها والسحرة آلهة في هذه العوالم مثل قصة الأمير الذي تحوله الساحرة إلى كلب إلى أن تظهر اميرة لديها قوة عكسية من السحر تعيده الى انسانيته وتتزوجه. ففي العوالم السحرية  قوتان متصارعتان (الخير والشر). ولابد أن ينتصر الخير! هناك قصص غايتها الاجابة عن أسئلة وجودية وتعليل ظواهر الطبيعة وعجائبها كحكاية الدجاج الذي اتفق مع الطيور على الطيران الى مكان اخر فقالت الطيور “غدا ان شاء الله ” فرد الدجاج ” غدا أراد الله أو لم يرد” وفي الغد طارت الطيور بينما ظل الدجاج على حاله إلى يومنا هذا. وبالمناسبة للحيوانات حصة كبيرة في الموروث القصصي فغالبا كان السلف يسقطون أفكارهم على الحيوانات ويعطونها صفات بشرية ويجعلونها تقوم بأعمال تبرر غاية القصة كأن تكون تعليمية مثل كليلة ودمنة. أو قد يتم تغليفها بأفكار نقدية كما في قصة ملك الطيور الذي يتجبر ويقتل العصافير، فتتحد عصافير الغابة مع صديق من النسور ويطيحون بالملك ويستولون على عرشه. ومنها ما يقال لأجل التسلية باستخدام الرمزية وإسقاط طبائع الحيوانات على الانسان مثل قصة ابن آوى الذي تاب عن سرقة الدجاج وقرر الحج إلى بيت الله الحرام.

ولا يقف الموروث القصصي عند هذا الحد بل يستمر بالتنوع فيجعل حكاياته بطولية عندما نسمع عن الفارس الشجاع ذو القيم الأخلاقية في صراعه ضد ذاته ومواجهة ما يعترضه ويهدد قيمه، فنكون أما شخصيات خالدة مثل (محمد الحرامي وعنترة والزير سالم). وقصص أخرى تستوحى من فرسان وملوك معروفين مضاف إليها جرعات من الخيال فنجدهم يشبهون الى حد كبير النمرود وكسرى وابي نؤاس والبهلول. وبذلك يكون الموروث الشعبي حافلا بشخصيات تاريخية ملهمة واستطير دينية وقبلية وحتى اساطير العلاقات البشرية، ثنائية الحب والموت في الحكايات ورفضها للاندثار.

كل هذه الذاكرة الزاخرة بالحكايات هناك أيضا لتلك الحكايات الواقعية الموقفية الساخرة التي تجعلها التجربة والمبالغة مليئة بالمعاني. والتي استخدمها أجدادنا بحكمة وسميت فيما بعد أمثالا شعبية. ومثيلاتها ما تسمى بـ النوادر والنكات وهي الحكاية القصيرة ذات الحبكة المزدحمة بالمعنى والموجهة بدقة لعلة في المجتمع كالبخل والجبن والطبقية، ابطالها يتعرضون لمواقف هزلية لا تنتهي ومنهم (جحا وأبو نؤاس). وأخيرا وليس آخرا هناك الحكايات التي وجدت منذ الأزل فكان لديها سلطة لا حد لها على عقولنا وعواطفنا ولها ما لا يجوز لغيرها من مكانة راسخة في ارثنا وهي حكايات كائنات ميتافيزيقية خرافية انني أتكلم عن السعلوة والدامية، الطنطل والواوي، الجن وحديدان، كصاب الكلوب والحنفيش وغيرها من الأسماء التي ما يزال وقع اسمها مرعبا في ذاكرتي ومخيلتي.

كانت جدتي وهي تجدل شعري العصي تدرك أنها تستطيع تهذيب حركاتي إذا ما بدأت بسقيي من بئر القصص الذي تحمله في مكان ما من قلبها وعقلها…وعلى الرغم من أن جدتي لم تكن تجيد القراءة والكتابة، إلا أن كل حكاياتها كانت هادفة وتحمل كم من المنطقية والأسلوب التثقيفي التوجيهي فكانت تخلو من الألفاظ الجارحة وتدعو للاتكال على الله والعمل باجتهاد والسعي الجاد لوصول المرء إلى أهداف حقيقية. وكانت ترفض أن يدون أحد حكاياتها لأنها تؤمن أن التدوين سيلغي هذه القصص من الذاكرة ويحرمها من بداهة الإنسان في الحفظ والنقل بأسلوب يتغير ويتنوع من حكاء إلى آخر.  كانت تدرك في اللاوعي أن التدوين سيجمد القصص وبالتالي لا تعود تناسب الأجيال القادمة. هذا ما كانت تعتقده جدتي الاميّة! 

على الرغم من ذلك كانت ايضا تدرك بفعل التجربة والحكمة المتناقلة من الأسلاف أشياء عجزت الكتب والمدارس عن اختزالها وتعليمها. فكانت حكاياتها مليئة بالنساء البطلات الشجاعات وأحيانا الساذجات. في حكايتها لدى المرأة قدرة تجعلها تصنع الأحداث، ترسم البطولات وطريق الأبطال من الفرسان والسلاطين. فلا تخلو الحكايات من النساء في أدوار مختلفة ومتفاوتة لكن بالتدقيق قليلا نجد أنه دائما ما يكون دورا جوهريا حتى وإن ظهرت بجملة واحدة. وبشكل عام يتمتع ابطال الحكايات في موروث القصص الشعبية الموصلية بقدر كبير من الذكاء والحيوية والمرونة التي تتراوح بين أن يبدو أحيانا مغفلا الى ابعد حد أو يكون شديد الذكاء والخبث حد الانتقام. ربما كانت الجدات تعطي للنساء أدورا وصفات مفصلة وبشكل يفوق الشخصيات الرجالية، لكون المرأة هي الصائغة للحكاية فتأخذ دورا كبيرا فعالا كون الحكايات بدأت من البيت والاسرة فكانت تروى بواسطة النساء، ولأن تجارب النساء تكون أغزر وأكثر دقة وحبكة في مجتمعهم من تجارب الرجال المنحصرة في السعي للعمل وتصريف شؤون العمل والتجارة أو في الحروب والمعارك أما بين الاثنين لا شيء يحدث. بينما تلزم النساء بيوتهن، وفيها يدبرن المكائد ويحبكن المؤامرات فتجعل من بنات جنسها لغزا عسيرا على الفهم في قصصها. كما في حكاية (رحمة الله) وحكاية (بنت السلطان وي عليكي وي عليكي) وحكاية (ست الستوت وعنبر المستوت) 

وعلى الجانب الأخر هناك القصص الأخرى، التي يتناقلها الرجال عادة وعندها يكون ابطالها من الرجال وتكون المرأة أقل شأنا ولكن لا تخلو الحكايات من النساء وإن بدين أقل شأنا كما في قصة (محمد الكسلان) حيث تظهر أمه في بداية القصة وهي تحثه على العمل وتدفعه إليه فلا يجد مفرا من أن يستجيب لها حتى يكون درويشا ذكيا يستغل البسطاء ليصل الى الملك ويحظى عنده بمكانة عالية.

فأدوار البطولة في الحكايات الموروثة تتراوح بين رجال ونساء وكل منهم يعطي أبناء جنسه البطولة، ويعزى ذلك الى انعزال المجتمع آنذاك وانفصاله إلى مجتمعين مختلفين متناقضين أحدهما داخل المنزل بطلاته النساء والأخر في الخارج وجل ابطاله رجال فكان هناك فرق بين حياتهم وحياواتهن. 

العنصر الآخر في الحكايات والذي يكون ايضا على قدر من الاهمية هو براعة الحكاء في استخدام هذه الموسيقى وتسخير حباله الصوتية لجذب انتباه المستمعين عن طريق تمثيل الأحداث بانفعالات صوتية أو الاعتماد على قدرته الذاتية في توسيع الأحداث وتحشيتها بالكثير من الارتجال الآني مع المحافظة على النص الأصلي، واحيانا ترك فترات من السكوت والصمت أو الخروج المدروس عن النص لتصريف شؤون خارج الحكاية فيما تظل العيون والأسماع شاخصة مترقبة كل هذه متعمدة لتزيد الاثارة والتشويق لدى المتلقين، كما في حالة جدتي وهي تضيف مهام تنظيف في أكثر اللحظات حرجا في القصة فما يكون مني إلا أن أنفذ مذعنه في اندماج تام مع ما سيخرج تاليا من فمها لأعرف ماذا حدث في القصة . وكذلك وهي تزيد من عدد المطلقات وترسم احداث مضحكة غير معقولة تجعل النساء تصبح عرضة للطلاق لأسباب لا تخلو من سذاجة وبلاهة مطلقة، هدف جدتي منها أن تسمع قهقهتنا، لكنها كانت محبوكة مع القصص بطريقة محكمة تجعلنا نرتبك ونحن نتذكرها الان ولا نعرف حتى هذه اللحظة أي منهن هي التي ألفتها جدتي.

فكانت حكايات جدتي فن كامل متكامل فريد من نوعه. 

في بحثي عن أصول الحكايات وتاريخها اثريت معرفتي بالمزيد والمزيد منها وتنوعت ذخيرتي المعرفية بتنوع الأشخاص الذين تعرفت عليهم في رحلتي هذه وأحدهم كان شابا مفتونا بالقصص مثلي لكنه حكاء بالفطرة وهو (ياسر كوياني – ناشط ومدون مهتم بالتراث الموصلي) يقول ياسر ” كان يكثر تداول القصص والحكايات الشعبية في مواسم الأعياد والمناسبات الدينية، لأن الناس في هذه الأوقات يبتعدون عن مزاولة العمل ويتفرغون للأجواء الاسرية واحياء علاقاتهم الاجتماعية، ينشدون التسلية والترفيه فيتداولون القصص في المقاهي وبيوت الجدات. كانت القصص التي يتم تداولها هي تلك التي تذكر الناس بعمل الخير، وبعادات وتقاليد الأسلاف الحميدة. فيما هناك قصص أخرى هدفها زيادة الوعي الجمعي تجاه الحروب والحوادث المأساوية، وأيضا القصص التي تهدف الى تسلية المستمعين والترفيه عنهم. وكل هذه الأهداف يتم تجسيدها بواسطة الحكواتي. لأن مهنة سرد الحكايات فن لا يقل عن غيره من الفنون. والحكواتي هو فنان لأنه يعمل على إيصال المعنى الى حواس المستمع بشكل متجذر سمعا وشكلا ومضمونا فهو يمثل الدور ويتلاعب بنبرة الصوت بما يتوافق مع شخصيات القصة وأحداثها ويراعي أن يبقى جمهوره متشوقا ومشدودا مع تطور القصة.” 

“تختلف القصص من منطقة لأخرى ومن فئة لأخرى، للنساء قصص تختلف عن قصص الرجال وكذلك الأطفال. وقد يحدث أن يتم حجب بعض القصص لدى احدى الفئات عن الفئات الأخرى لسبب أو لأخر قد يكون احتواء بعض الحكايات على مصطلحات غير مناسبة للنساء أو الأطفال.   

يبدأ الحكواتي عادة بقول شهير يميزه مثل ” كان يا ما كان على الله والتكلان.. وكلمن علينو ذنب يقول التوبة واستغفر الله ” ويختتم بجملة ” كنا عدكم وجينا.. ولو بيتنا قغيب كان جبنا حفنة زبيب.. ونسلم عليكم ونلتقيكم غدا ونحكيلكم حكيي جديدي”. “اليوم نشهد محاولات تغيير وإعادة توجيه للنصوص القصصية وأصبح حكواتي اليوم يحكي قصص الواقع الحالي وربطه مع الموروث لتوجيه الشباب أو لانتقاد حالات سلبية اجتماعية أو سياسية وغيره وهذا التغيير يعد تغييرا إيجابيا “.

ومن الموصل الى قره قوش يقول (نجيب بهنام حسنة – خبير التراث واللغة السريانية والموروث الشعبي) عن الموروث القصصي في ذاكرته

“لو رجعنا إلى الوراء قليلاً إلى فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي وبحثنا في موضوع الموروث الشعبي لشعبنا في سهل نينوى وبالأخص بلدة بغديدا حيث كان الموروث لازال موجودا على مستوى القصص والاساطير وكذلك الالعاب والأمثال والأزياء الشعبية، وكان شعب بغديدا متميزا متأصلا في تراثه الذي ورثه. عن الآباء والأجداد قبل مئات، وآلاف السنين وقد تركت لنا حضارة بابل وأشور كثير من الموروثات والتي توارت بعد فترة السبعينات وظهور التلفزيون وانتشار استعماله في معظم البيوت، الفترة التي سبقت ظهور التلفزيون حيث كانت الليالي يتخللها تجمع أفراد العائلة مع الجيران والأصدقاء وهم ينتظرون بفارغ الصبر الحاكي أو القاص ليقص لهم قصة من الزمن الماضي السحيق وقد تكون القصة إما مغامرة أو قصة حب أو اسطورة تتضمن مخلوقات وهمية اسطورية بأسماء تثير الاهتمام من ضمن هذه الحيوانات الحنفيش والطر طميس والحصان الناري ودب هرماشة المخيف وقد تتضمن أيضاً حيوانات واقعية منها الفرس والحمار والاسد والنمر والثعلب وغيرها من الحيوانات وكذلك الطيور منها الطيور الاسطورية مثل طير ره خَما و طير يمرخا وهو طير أشوري اسطوري كان يضرب أرتال جيوش الأعداء بالحجارة المشدودة بمنقاره بالحبل

كانت القصص احيانا تأخذ شكل سلسلة من الحلقات وكل ليلة يقص القاص حلقة، وقد تكون القصة حلقة واحدة تنتهي بانتهاء الليلة أو التعليلة وعند الختام يذكر القاص ما يلي: (طلا ثا خبوش خليي خا دحكايا ومحكيلي وخا دفلان وخا دشمائي وناشي دبيثا). وهكذا كانت التعليلة تختتم لينتظر الجميع بشوق مجيء الليلة القادمة ليأتي القاص ويكمل قصته أو يحكي قصة أخرى وهكذا كانت الحكاية مصدر للاستئناس والانسجام والأمل. أما على مستوى الأخبار فعندما كان يأتي ضيف غريب أو مسافر من أرض غريبة وبعيدة فكان المطلوب منه أن يخبرهم بما في جعبته من أخبار الأقوام الذين عاش معهم أو رافقهم أو اطلع على أحوالهم فيسرد لهم بكل ما رآه وما سمعه. وهكذا كانت سهرات الليالي بمحبيها يجتمعون ويتسامرون متناسين همومهم ومشاكلهم بقولهم (ان النهار يكفينا شره) ففي الليل راحة لهم وعزاء والابتعاد عن مشاكل الدنيا وبذلك فقد خدم القاص في عهده مجتمعه وخاصة في الكثير من القصص. كار القصص كان فيها المغزى ومنها اتخاذ العبرة ومنها الحكمة ومنها اتقاء الشر حيث أن الشر لا يدوم وأيضاً غلبة الحكمة والأخلاق على القوة والشر”.

وقرات في المراجع عن الحكايات في تلعفر الكثير المثير 

من المعروف ان المجتمع التلعفري كان مجتمع زراعي محافظ ومنغلق على ذاته نوعا ما ولا يملك الكثير من وسائل الترفيه حتى وقت قريب، لذا كان الحكايات الشعبية منتشرة بطريقة كبيرة في مثل هذه البيئة حتى وقت قريب أي مع دخول وسائل ترفيهية حديثة لكنها عجزت عن زحزحة القصص الشعبية عن عرشها فكانت القصص تتداول وبكثرة في المقاهي والدواوين وبين الفلاحين في القرى. فكان للحكائين دور كبير في سرد القصص بتفاعل وتمثيل مؤثر حتى يصوروا أحداث القصص ومعاركها للمتلقين مما اكسبهم قوامة على المستمعين فظهرت حقوق للحكاء مثل عدم مقاطعته وعدم مناقشته فيما يقول مهما بدا غير منطقي فظهر مثل شعبي يلجم أفواه المنتقصين من المستمعين وهو (سرجك ياريسي يلان ياريسي كرجك) ويعني (لابد أن يكون نصف القصص صحيحا ونصفها الأخر لا يتمتع بأي أساس من الصحة) ولا يجوز الاعتراض بأن القصة مكررة لأن ذلك قد يجعل الحكاء يمتنع عن الكلام بشكل قاطع. 

وما ميز جلسات الاستماع الى الحكايات هو ايمان المستمعين بالقول الشهير (لا تقص القصص نهارا لأن كل من يفعل ذلك سوف تنبت له قرون في الآخرة أو تنقلب نقوده الى حديد) لذا تجنب الحكائين سرد حكايتهم نهارا كي لا يلهوا الناس عن أعمالهم وكسب قوتهم. 

يشترك الموروث التلعفري مع الموصلي أيضا في تنوع واختلاف مواضيع القصص ما بين عالم الرجال الذي يستلذ بقصص البطولات والشجاعة والكرم. بينما تدور قصص عالم النساء حول الخرافات والأساطير المليئة بألفاظ التخويف مثل المردة، الجن، وكذلك السعلوة وغيرها من القصص التي توجه بنبرة ترهيب للأطفال حد الفزع الذي يبعث فيهم سنة النوم ومن ثم تنمي عقدهم النفسية كالخوف من الظلام والأصوات المرعبة. 

أما الجملة الافتتاحية في القصص التلعفرية فتكون (كان ما كان… كانت الدنيا خالية الا من الخالق الديان..) ثم تبدأ الحكاية بجملة أخرى (في يوم من الأيام وفي سيول الوديان وفي رياح التلال وفي بقج النساء) وينهي القصة بجملة (أنتم الأصحاء وانا السليم) أي أن السهر لم يؤثر عليهم. 

لا تخلو قصص تلعفر الشعبية من خصائص أساسية منها أنها تقترن عند سردها بقصائد واشعار تزيد من لذة الحكاية وتكون ذات أصل تاريخي يتناقلها الخلف والسلف دون الإلمام بتكوينها وهل هي واقعية أم أسطورية او خيالية ولا حتى الى كم عام يمتد تاريخها مئات أم آلاف الأعوام فأبطال هذه القصص وبطلاتها منفردين ومعروفين بأسماء حقيقية كما في حكايات (عاشق كرم، آرزي قنبر، عاشق عمر، طاهر وزهرة، تودد الجارية..) كما ان من خصائص القصص هنا ان كل القصص التي يحمل بطلها صفات حميدة وحسن طباع وخلق ويكون مجهول الاسم يعطونه اسمه (محمدا) تيمنا باسم النبي (ص) حتى لو كانت أحداث القصة تمتد الى زمن بعيد يسبق ظهور الإسلام. كما في قصة (الرجل الثري وولده محمد) وهذا التفصيل ربما هو ما يفسر سبب اختلاف أسماء الشخصيات وحتى القصص من منطقة الى أخرى وحتى ضمن منطقة صغيرة مثل تلعفر لأن القصص تخضع للذاكرة الحية وإعادة السرد والانتقال الشفوي وكل هذه عوامل مساعدة تعمل على تغيير بنية القصص فيما تحافظ غالبا على شاعريتها وجوهرها.

كما أن القصص في الموروث التلعفري زاخرة بالخرافات التي تنافي المنطق والعقل لكنها خاضعة لقانون القصص والخيال كما في قصة (مكر النساء وزنجيل الحق) وفيها نرى الاعتقاد بأن هناك زنجيل معلق في السماء مهمته كشف الأكاذيب. وفي اعتقاد اخر بأن بيضة طائر العنقاء او كما يسمونه زمرد العنقاء تكون بحجم القبة الاعتيادية وكذلك الاعتماد على الصدف في تجميع المتنافرات في قصة واحدة ولصق الأحداث وإبراز الخوارق مثل الخاتم المسحور والبساط الطائر وكان هذا أمر طبيعي كون القصص الشعبية في تلعفر لديها هدف وحيد وهو التسلية وتمضية الوقت والتنفيس عن الكرب والهم والفراغ الذي كان يغلف حياتهم اليومية.    

ومن الحكايات التركمانية

قصة (ابنة البرذعي)تعد من أبرز الحكايات الشعبية التي يتداولها التركمان جيلا بعد آخر. حيث نرى فيها القيم المشتركة في القصص الشعبية اذ يمتاز ابطالها بالشجاعة والوفاء ففيها نرى البرذعي (وهي دلالة على مهنة صانع ما يوضع على ظهر الحمار أو البغل ليركب عليه) يتحمل اهانات واحتقار السلطان ولا يفشي بسره حيث تجسدت في شخصيته البساطة وحب العمل وكذلك اشتركت القصة باستخدام عناصرها في إبراز ظلم السلاطين واحتقار الطبقة الفقيرة والتسلط عليهم. حتى وصل الحال إلى أن تصبح ابنة البرذعي رمزا للتضحية التي تؤخذ الى بيت السلطان كخادمة. لكن هذا ما جعل دور المرأة لتركمانية بارزا فهي امرأة لها شخصية وإدراك وصبر طويل للتغلب على المصائب وتعكس منزلة خاصة في المجتمع وتظهر فلسفة وثقافة عالية في جوابها على الخطابة باللغز والتحوير. وكذلك لها منزلة عسكرية ومكانة بين الجيوش دلالة على بطولات فذة وإخلاص ووفاء ومن قبلها ظهرت المرأة التركمانية في قصة (قبج خاتون) كامرأة لها مكانة عسكرية وبطولات في الحروب. 

الموروث الشعبي والمشتركات الإنسانية المنسية

مما لا شك فيه أن كل النماذج القصصية المذكورة في المقالة فيها من التشابه الكثير لكونها قائمة على مبادئ مشتركة وتعمل على أهداف متقاربة والعديد من القصص تنتقل من مدينة إلى أخرى فتكتسب صفات ولغة تلك المدينة لكن أصلها واحد. ما ذكرته من قصص ما هي إلا نماذج مبسطة لموروث زاخر، كما أن هناك العديد من المكونات في نينوى لديها إرثها وموروثها لم تذكر هنا لسبب او لأخر، لكن ما يهم وما يجب العمل بشكل أكثر جدية عليه هو توثيق موروثنا القصصي لأنه يمثل المجهود الفكري للناس الذين لم ينالوا الحظوة في الكتابة أو استعملوها بشكل نسبي في القصص والاغاني والألغاز. حيث أن مسؤولية الحفاظ على ملامح هذا التراث الثري، وترسيخ خصوصيته، مسؤولية جمعية، أكبر من ان يتم حصرها بمرفق معين. مما يتطلب ان ينهض بهذه المهمة الجليلة، كل من يعنيه امر التراث وخصوصياته، من الكتاب، والفنانين، والباحثين، والرواة، وغيرهم، قبل ان تأتي الايام، على ما تبقى لنا منه من بقايا، فتنطوي صفحات مهمة، من صفحات ماضينا الجميل. ولأنه يمثل جهود الانسان المبكرة في ممارسة الإدراك والخيال والذاكرة سواء كانت حكايات تقليدية أم أساطير وخرافات. 

والتراث الشعبي بكل فنونه، وملامحه، ابن بيئته التي افرزته في الزمان والمكان والإنسان، ومن ثم فهو ملك عام لجمهور ذلك الشعب الذي أبدعه، وبالتالي فهم الاولى بالحفاظ عليه، من المسخ والتشويه، والأجدر من الغير برعايته، وتحصينه، من عوامل الضياع والانقراض.  لذلك فإن الحفاظ على الموروث الشعبي للبيئة الموصلية، انما يعني الحفاظ على سمات الشخصية الموصلية عبر الزمن، حيث انه يحمل الهوية الحضارية، بتنوع خصوصيته، وبتنوع المكان والمناخ والناس، سواء في مركز المدينة، أو في الاطراف.

يجدر بي أن اذكر ما قرأته في كتاب (الحيوان الحكاء) لجوناثان غوتشل، حيث يذكر غوتشل عائلتين من إنسان الكهف عيشان في نفس الحقبة وفي نفس الروتين اليومي، يخرجون صباحا بغرض الصيد والعمل ويعودون بعد غروب الشمس إلى كهفهم. يفترض غوتشل أن العائلة الأولى تتأخر في العودة حتى تغرب الشمس بالكامل وحتى تنتهي طاقته أفرادها فينامون مباشرة عند عودتهم، بينما تترك العائلة الثانية العمل عند انكسار الشمس قبيل المغرب ويعودوا الى الكهف، يشعلوا النار ويجلسون من حولها يتبادلون القصص عن كل ما حدث في يومهم. يقول غوتشل أخيرا عندما يمر الزمن وتهرم العائلتين سيموت أفراد العائلة الأولى بهدوء وصمت بينما سيعيش أفراد العائلة الثانية كأساطير في القصص التي خلقوها وتناقلوها وعاشوا فيها. 

مهما كانت القصص التي نرويها وكيفما كانت فهي ستظل شاهدا حيا عابرا للحدود محافظا على القيم والمبادئ الأهم في حياة الجنس البشري. فالتفريط في موروث الأمم وقصصها الشعبية هو تفريط بالتاريخ والذاكرة والقيم. هو استخفاف بتاريخ البشرية وعلى العكس من ذلك حفظها ورعايتها وأخذها على محمل الجد.